فصل: تفسير الآيات (109- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (109- 110):

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى} قال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج: مداد، والمراد بالبحر هنا: الجنس. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً، وقيل في بيان المعنى: لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} وقوله: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله: {قل لو كان}. وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها أي: لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجئ بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً، والمدد الزيادة، وقيل: عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع، قال الأعشى:
ووجه نقّي اللون صاف يزينه ** مع الجيد لبات لها ومعاصم

فعبّر باللبات عن اللبة. قال الجبائي: إن قوله: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه.
وأجيب بأن المراد: الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب: إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدّل على نفاد الشيء الآخر، ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته، وهي غير متناهية، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد {ولو جئنا بمثله مداداً} وهي كذلك في مصحف أبيّ، وقرأ الباقون {مدداً} وقرأ حمزة والكسائي {قبل أن ينفد} بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك مسلك التواضع، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي: إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال: {يوحى إِلَىَّ} وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بيّن أن الذي أوحى إليه هو قوله: {أَنَّمَا إلهكم إله واحد} لا شريك له في ألوهيته، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا} وهو ما دلّ الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} من خلقه سواء كان صالحاً، أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية: إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً.
وأقول: إن دخول الشرك الجليّ الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدّم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لكلمات رَبّى} يقول: علم ربي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول: ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الآية قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره، وليست هذه في المؤمنين.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رجل: يا نبيّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله، وأحبّ أن يرى موطني، فلم يردّ عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}.
وأخرج ابن منده، وأبو نعيم في الصحابة، وابن عساكر من طريق السدّي الصغير عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدّق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله، فنزل في ذلك {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قال رجل: يا رسول الله أعتق وأحبّ أن يرى، وأتصدّق وأحبّ أن يرى، فنزلت: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الآية وهو مرسل.
وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضاً.
وأخرج ابن سعد، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال: «لا أجر له» فأعظم الناس ذلك، فعاد الرجل فقال: «لا أجر له».
وأخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص، وابن جرير في تهذيبه، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن شدّاد بن أوس قال: كنا نعدّ الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر.
وأخرج الطيالسي، وأحمد، وابن أبي الدنيا، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن شدّاد بن أوس أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك، ثم قرأ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الآية».
وأخرج الطيالسي، وأحمد، وابن مردويه، وأبو نعيم عن شدّاد أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غنيّ».
وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وابن جرير في تهذيبه، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ؟ الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل».
وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن شدّاد بن أوس سمعت رسول الله يقول صلى الله عليه وسلم: «أتخوّف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون الناس بأعمالهم، قلت: يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته».
وأخرج أحمد، ومسلم، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك»، وفي لفظ: «فمن أشرك بي أحداً فهو له كله» وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر، وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدرّ المنثور في هذا الموضع فليرجع إليه، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية، بل الشرك الجليّ يدخل تحتها دخولاً أوّلياً، وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدّمنا، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرّر في علم الأصول.
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم».
وأخرج ابن راهويه، والبزار، والحاكم وصححه، والشيرازي في الألقاب، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} الآية، كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة» قال ابن كثير بعد إخراجه: غريب جداً.
وأخرج ابن الضريس عن أبي الدرداء قال: من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن كثير: وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا يغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه.

.سورة مريم:

هي مكية، وآياتها ثمان وتسعون آية.
أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة كهيعص.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله شيء؟ قال: نعم فقرأ عليه صدرا من كهيعص، فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.

.تفسير الآيات (1- 11):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
قوله: {كهيعص} قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وعكس ذلك ابن عامر وحمزة، وأمالهما جميعاً الكسائي وأبو بكر وخلف، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكي عن غيره أنه كان يضم (ها).
وقال أبو حاتم: لا يجوز ضمّ الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في (ها) وفي (يا) وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة. وقيل في تأويلها: أنه كان يشمّ الرفع فقط. وأظهر الدال من هجاء (صاد) نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد وأدغمها الباقون.
وقد قيل في توجيه هذه القراءات: أن التفخيم هو الأصل، والإمالة فرع عنه، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل، ومن أمالهما فقد عمل بالفرع، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في فواتح السورة مستوفى في أوائل سورة البقرة.
ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسماً للسورة على ما عليه الأكثر الرفع على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، قاله الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا محال لأن {كهيعص} ليس هو مما أنبأنا الله عزّ وجلّ به عن زكريا، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به، وليس {كهيعص} من قصته، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} خبر لمبتدأ محذوف أي: هذا ذكر رحمة ربك وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك. قال الزجاج: {ذكر} مرتفع بالمضمر، والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك {عَبْدِهِ زكريا} يعني: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وانتصاب {عبده} على أنه مفعول للرحمة، قاله الأخفش. وقيل: للذكر. ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها، كما يقال: ذكرني معروف فلان أي: بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر: {ذكر} بالنصب، وقرأ أبو العالية {عبده} بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكريا على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه، وقرأ الكلبي: {ذكر} على صيغة الفعل الماضي مشدّداً ومخففاً على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكريا، لأن كل نبيّ رحمة لأمته.
{إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} العامل في الظرف: رحمة. وقيل: ذكر. وقيل: هو بدل اشتمال من زكريا. واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً؛ فقيل: لأنه أبعد عن الرياء، وقيل: أخفاه، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا.
وقيل: أخفاه مخافة من قومه. وقيل: كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر. {قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي} هذه الجملة مفسرة لقوله: {نادى ربه} يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن، وقرئ بالحركات الثلاث. أراد أن عظامه فترت وضعفت قوّته، وذكر العظم، لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته، ولأن أشدّ ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحد العظم قصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام {واشتعل الرأس شَيْباً} قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين، والباقون بعدمه، والاشتعال في الأصل: انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدّاً: قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
فإن ترى رأسي أمسى واضحا ** سلط الشيب عليه فاشتعل

وانتصاب {شيباً} على التمييز، قاله الزجاج.
وقال الأخفش: انتصابه على المصدر، لأن معنى اشتعل: شاب. قال النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} أي لم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكريا ها هنا، فإن في قوله: {وَهَنَ العظم مِنّي واشتعل الرأس شَيْباً} غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه، وبلوغ مآربه، وفي قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} ذكر ما عوّده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته، يقال شقي بكذا، أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه.
{وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر {خفت} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله {الموالي} أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذاً من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب. وقرأ الباقون {خفت} بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء، ومفعوله الموالي، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت، وتقديره: خفت فعل الموالي من بعدي. قرأ الجمهور: {ورائي} بالهمز والمدّ وسكون الياء، وقرأ ابن كثير بالهمز والمدّ وفتح الياء.
وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي. والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العمّ ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي، قال الشاعر:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ** لا تنشروا بيننا ما كان مدفوناً

قيل: الموالي الناصرون له.
واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل: خاف أن يرثوا ماله، وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً.
وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين، فخاف أن يضيع الدين بموته. فطلب ولياً يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأوّل لأن الأنبياء لا يورثون وهم أجلّ من أن يعتنوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا: وراثة المال، بل المراد: وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين.
وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} العاقر: هي التي لا تلد لكبر سنها، والتي لا تلد أيضاً لغير كبر وهي المرادة هنا، ويقال: للرجل الذي لا يلد: عاقر أيضاً، ومنه قول عامر ابن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا

قال ابن جرير: وكان اسم امرأته: أشاع بنت فأقود بن ميل، وهي أخت حنة، وحنة هي أمّ مريم.
وقال القتيبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أمّ عيسى، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في الحديث الصحيح. {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي أعطني من فضلك ولياً، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوّز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما.
وقد قيل: إنه كان ابن بضع وتسعين سنة، وقيل: بل أراد بالوليّ الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة، فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم.
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك بالرفع في الفعلين جميعاً، على أنهما صفتان للوليّ وليسا بجواب للدعاء. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى ابن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، على أنهما جواب للدعاء.
ورجح القراءة الأولى أبو عبيد وقال: هي أصوب في المعنى؛ لأنه طلب ولياً هذه صفته فقال: هب لي الذي يكون وارثي.
ورجح ذلك النحاس وقال: لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول: أطع الله يدخلك الجنة أي إن تطعه يدخلك الجنة، وكيف يخبر الله سبحانه بهذا، أعني كونه أن يهب له ولياً يرثه، وهو أعلم بذلك، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوّة على ما هو الراجح كما سلف.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وزعم بعض المفسرين أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقرئ: {يرثني وارث من آل يعقوب} على أنه فاعل يرثني. وقرئ: {وأرث آل يعقوب} أي أنا. وقرئ: {أو يرث آل يعقوب} بلفظ التصغير على أن هذا المصغر فاعل يرثني. وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى {واجعله رَبّ رَضِيّاً} أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله؛ وقيل: راضياً بقضائك وقدرك، وقيل: رجلاً صالحاً ترضى عنه، وقيل: نبياً كما جعلت آباءه أنبياء.
{رَضِيّاً يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله سبحانه، وقيل: إنه من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران {فَنَادَتْهُ الملئكة} [آل عمران: 39]، وفي الكلام حذف، أي فاستجاب له دعاءه، فقال: يا زكريا، وقد تقدّم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكريا. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال أكثر المفسرين: معناه: لم نسمّ أحداً قبله يحيى.
وقال مجاهد وجماعة: معنى {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ، وردّ هذا بأنه يقتضي تفضيله على إبراهيم وموسى. وقيل: معناه لم تلد عاقر مثله، والأوّل أولى. وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين: الأولى: أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين. والجهة الثانية: أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه.
{قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} أي كيف أو من أين يكون لي غلام؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من قدرة الله وبديع صنعه، حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في آل عمران، {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتوا لأنه من ذوات الواو فأبدلوه ياء لكونها أخفّ، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يع ** ذر من كان في الزمان عتياً

وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص والأعمش {عتياً} بكسر العين، وقرأ الباقون بضم العين وهما لغتان، ومحل جملة {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} النصب على الحال من ضمير المتكلم، ومحل جملة {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} النصب أيضاً على الحال، وكلا الجملتين لتأكيد الاستبعاد والتعجب المستفاد من قوله: {أنى يَكُونُ لِي غلام} أي كيف يحصل بيننا ولد الآن، وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي وهي الآن عجوز، وأنا شيخ هرم؟
ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} الكاف في محل رفع، أي الأمر كذلك، والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا، ثم ابتدأ بقوله: {قَالَ رَبُّكِ} ويحتمل أن يكون محله النصب على المصدرية، أي: قال قولاً مثل ذلك، والإشارة بذلك إلى مبهم يفسره قوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وأما على الاحتمال الأوّل فتكون جملة {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره، أي قال: هو مع بعده عندك، عليّ هين، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد.
قال الفراء: أي خلقه عليّ هين {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها. قال الزجاج: أي فخلق الولد لك كخلقك، والمعنى: أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لكونه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول: وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم. قرأ أهل المدينة وأهل مكة والبصرة وعاصم وابن عامر {وقد خلقتك من قبل} وقرأ سائر الكوفيين: {وقد خلقناك من قبل}.
{قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل، والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه. قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر، فسأل الله آية يستدلّ بها على قرب ما منّ به عليه. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشيطان، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدّي وهو بعيد جدّاً {قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} قد تقدّم تفسير هذا في آل عمران مستوفى، وانتصاب {سوياً} على الحال، والمعنى: آيتك أن لا تقدر على الكلام والحال أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تمنعك منه، وقد دل بذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران. أن المراد ثلاثة أيام ولياليهنّ.
{فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} وهو مصلاه، واشتقاقه من الحرب، كأنّ ملازمه يحارب الشيطان.
وقيل: من الحرب محركاً، كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قيل: معنى {أوحى}: أومأ بدليل قوله في آل عمران {إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41]. وقيل: كتب لهم في الأرض. وبالأوّل قال الكلبي والقرظي وقتادة وابن منبه، وبالثاني قال مجاهد.
وقد يطلق الوحي على الكتابة ومنه قول ذي الرّمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ** بقية وحي في بطون الصحائف

وقال عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى ** فأهداها لأعجم طمطميّ

و{أن} في قوله: {أَن سَبّحُواْ} مصدرية أو مفسرة، والمعنى: فأوحى إليهم بأن صلوا، أو أي صلوا، وانتصاب {بكرة} و{عشياً} على الظرفية. قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم. قال: وقد يقال العشيّ جمع عشية، قيل: والمراد: صلاة الفجر والعصر. وقيل: المراد بالتسبيح: هو قولهم سبحان الله في الوقتين: أي نزهوا ربكم طرفي النهار.
وقد أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {كهيعص} كبير هاد أمين عزيز صادق، وفي لفظ: كاف بدل كبير.
وأخرج عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس، وعثمان بن سعيد الدارمي في التوحيد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: {كهيعص} قال: كاف من كريم، وهاء من هاد، وياء من حكيم، وعين من عليم، وصاد من صادق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس: من الصحابة {كهيعص} هو الهجاء المقطع، الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصوّر.
وأخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن {كهيعص} فحدّث عن أبي صالح عن أمّ هانئ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاف هاد عالم صادق».
وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة ابنة عليّ قالت: كان علي يقول: يا كهيعص اغفر لي.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في: {كهيعص} قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن السدّي قال: كان ابن عباس يقول في كهيعص وحموياس وأشباه هذا: هو اسم الله الأعظم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روى عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف، وردّ العلم في مثلها إلى الله سبحانه، وقد قدّمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة.
وأخرج أحمد وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كان زكريا نجاراً».
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن أزر بن مسلم من ذرية يعقوب دعا ربه سرّاً {قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي} إلى قوله: {خِفْتُ الموالي} قال: وهم العصبة {يَرِثُنِي} يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب، فنادته الملائكة، وهو جبريل: إن الله يبشرك {بغلام اسمه يحيى} فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك، فشك وقال: {أنى يَكُونُ لِي غلام} يقول: من أين يكون وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر، قال الله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِنّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَائِي} قال: الورثة: وهم عصبة الرجل.
وأخرج الفريابي عنه قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال: {رب هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال: مثلاً.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال: لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف عتياً أو عسياً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: {عِتِيّاً} قال: لبث زماناً في الكبر.
وأخرج أيضاً عن السدّي قال: هرماً.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً} قال: اعتقل لسانه من غير مرض، وفي لفظ من غير خرس، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {فأوحى إِلَيْهِمْ} قال: كتب لهم كتاباً.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {أَن سَبّحُواْ} قال: أمرهم بالصلاة {بُكْرَةً وَعَشِيّاً}.